حياتي لمدة ثلاث أشهر دون كلام!


حياتي لمدة ثلاث أشهر دون كلام!




- “أرجو أن تمتنع عن الكلام لمدة أسبوعين.”
كان الطبيب الذي يعرف حالتي جيدًا ينظر إليَّ من خلف نظارته بأسى، محاولاً التعاطف معي، وهو يقول لي تلك الكلمات، ابتلعت ريقي بصعوبة، محاولاً أن أجمع شتات نفسي المتناثرة، حاولت أن أتكلم،أريد أن احتج، أعترض، أعلن عن عدم رضاي بما يقوله .. لكن حروفي ماتت على شفتيّ، وخرج صوتي مبحوحًا، ولم يستطع طبيبي أن يفهم شيئًا، فابتسم مشفقًا وقال: “لا ترهق حبالك الصوتية يا محمد، فهي تحتاج إلى وقت طويل لتستعيد عافيتها وقدرتها الصوتية مجددًا ..! علاجك الوحيد في حالتنا … أن تكف عن الكلام.”
مد يده بالوصفة الطبية معلنًا انتهاء الموعد، الذي سبقه عشرات المواعيد والفحوصات، والتحاليل والأشعة، لتحديد ماهية مرضي، التقطتها متأملاً خرابيش قلمه الأزرق، حاولت أن أفك طلاسمها، فلم أفهم سوى أنه يجب أن أتوقف عن الكلام تمامًا .. ولأسبوعين كاملين؟

عندما أغلقت باب العيادة، حاولت أن أسحب يدي معي، لأجر أذيال يأسي، وأعيش الألم وحيدًا، وأدخل ملتزم الصمت، وأعلن صومي عن الكلام رغمًا عني، غير أن يدي أبت أن تترك مقبض الباب، وكأنما تتوسل إليّ، وهي تعرفني أكثر من نفسي، وترجوني لأعود إلى الداخل، وأطلب من الطبيب أن يسمح لي بالكلام، ولو لساعة واحد في اليوم، أو حتى لربع الساعة، نظرت إليها بأسى، والدمع يغزو مقلتاي، اللاتي بدأتا تنوءان بحملهما، وأنا أرغم يدي على ترك المقبض، وبعد تردد تجاوبت معي، وأطلقت المقبض بتردد.
في الممر المؤدي إلى بوابة الخروج جلست على كرسي خشبي، محاولا تهدئة نفسي، والتقطت طرف شماغي، ومسحت به ما علق بعيني من آثار الدمع، وبينما أنا مغمض عيناي، وواضعًا يدي على رأسي، تناهى إلى سمعي صوت يقول:”أأنت بخير يا سيدي؟”
التفت لأجد ممرضة تنظري إليَّ مقطبة حاجبيها، وتعلو تقاسيم وجهها نظرة حزن وشفقة، كدت أن أصرخ في وجهها، وأطلب منها أن تهتم بأمورها فحسب، فلم أكن في حالة نفسية تسمح لي بأن أتلقى الشفقة من آخرين .. أو تعاطف من أحد خصوصًا في هذه اللحظة .. لحظة ضعفي!
تمالكت نفسي، وهززت لها برأسي بأن كل شيء على ما يرام، وأشرت إلى حلقي ثم وضعت يدي على شفتي التي أطبقتهما وأشرت بأني لا أستطيع أن أتكلم، هزت رأسها وقلت محاولةً مواساتي:”أوه .. أنا آسفة حقًا.”
نظرت إليها، ورسمت على شفتي ابتسامة تقطر حزنًا، ولملمت شتات روحي، ووقفت وخطوت نحو بوابة الخروج، وأنا أفكر في كلماتها، ومدى (الأسف) الذي تشعر به حيالي، وهل سيعيد لي الأسف صوتي المسلوب؟
ركبت سيارتي، وجلست خلف مقودها، أنزلت (الشماسة) وفتحت المرآة الملحقة بها، و على ضوء المصباح الخافت، دققت النظر إلى وجهي الشاحب، وآلاف الأسئلة تثور بداخلي، ما الذي جرى لي؟ مازالت عيناي كما هي، أنفي في مكانه، شفتاي على عهدهما، أمعنت النظر إلى عيني، وأنا أحاول النفاذ إلى داخل روحي، لم أستطع أن أتحمل أكثر من ذلك، شعرت بكره عجيب لمن ينظر إليَّ في المرآة، كرهت الضعف الذي يعيشه، لم أطق النظر إليه، أغلقت المرآة، وقدت سيارتي متجهًا نحو المنزل، وعندما دخلته أسرعت أجر أذيال ثوبي نحو غرفتي، لم أعرج على والدتي في غرفتها كما كنت أفعل دائمًا، فلقد أحسست بأني مثير للشفقة، وفضلت أن احتفظ بكل الحزن لوحدي، وأوفر الألم لنفسي فقط، هذا ما كنت أقنع به نفسي على الأقل، لأني كنت اعرف أنها تفضل أن تجلس وحيدة على أن تنال نظرة أسى وشفقة من الآخرين.
في ظلام غرفتي، استلقيت على فراشي، وذاكرتي تجتر كل ما حدث لدى الطبيب، والألم يشتعل بداخلي حتى تركه آثاره واضحة على عيني ووجهي، وبالرغم من التعب النفسي والجسدي الذي كنت أعاني منه، لم يزرني النوم تلك الليلة، وتركني أصارع الهواجس السوداوية، والأفكار المظلمة .. وحيدًا.
.
.
وللحديث بقيّة

Sharing Widget bychamelcool